تباطأت معدلات التضخم في كبرى الاقتصادات العالمية خلال شهر أكتوبر 2023 لتصل إلى معدلات قريبة من مستهدفات البنوك المركزية، والتي قادت معركة شرسة لكبح جماح التضخم على مدى نحو 20 شهراً من خلال رفع أسعار الفائدة لتصل إلى مستويات قياسية.
وبات الشغل الشاغل للأسواق والمستثمرين والمهتمين معرفة توجهات البنوك المركزية العالمية خلال الفترة المقبلة، ليبرز السؤال الأهم.. هل توقفت حملة رفع أسعار الفائدة؟ بل ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك متسائلين..
هل ستقوم البنوك المركزية بخفض أسعار الفائدة؟
وفيما اتفق خبراء اقتصاد في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” على أن البنوك المركزية العالمية حققت نصف انتصار في معركتها ضد التضخم، معتبرين أن الانتصار الكامل يتجلى في القدرة على منع التضخم من الارتداد مجدداً، واتفاقهم كذلك على توقف رفع أسعار الفائدة، لكنهم اختلفوا حول التوجهات المستقبلية للبنوك بشأن تخفيض أسعار الفائدة.
وتباطأ التضخم في الولايات المتحدة خلال شهر أكتوبر الماضي بأكثر من التوقعات، إلى 3.2 بالمئة على أساس سنوي، مقابل توقعات بأن يسجل مؤشر أسعار المستهلكين 3.3 بالمئة، بحسب وزارة العمل الأميركية، وبذلك يقترب التضخم من هدف البنك الاحتياطي الفيدرالي البالغ 2 بالمئة.
وكان التضخم في الولايات المتحدة قد ارتفع إلى أعلى المستويات في أكثر من 40 عاماً إلى 9.1 بالمئة في يونيو 2022.
أما بالنسبة لأسعار الفائدة، فقد أبقاها الاحتياطي الفيدرالي في الأول من نوفمبر الحالي للمرة الثانية على التوالي، دون تغيير، لتظل عند مستوى يتراوح بين 5.25 و5.5 بالمئة، وهو الأعلى منذ 22 عاماً، في حين توقف عن رفع الفائدة للمرة الأولى في سبتمبر الماضي وأبقى عليها دون تغيير، وذلك بعد زيادتها 11 مرة منذ مارس 2022.
وفي بريطانيا تباطأ التضخم السنوي لشهر أكتوبر بنسبة 4.6 بالمئة بما يفوق التوقعات التي كانت تشير إلى تباطؤ بـ 4.8 بالمئة، وذلك بعد أن سجل نسبة عند 6.7 بالمئة خلال سبتمبر وأغسطس الماضيين.
وترك بنك إنجلترا في وقت سابق من هذا الشهر سعر الفائدة القياسي دون تغيير عند 5.25 بالمئة بعد أن أنهى سلسلة من 14 ارتفاعاً متتالياً في سبتمبر، حيث يتطلع صناع السياسة إلى محاربة التضخم مرة أخرى للمضي قدماً نحو مستهدف البنك البالغ 2 بالمئة.
وكان التضخم في المملكة المتحدة قد بلغ 11.1 بالمئة في أكتوبر 2022 وهو أعلى مستوى في 41 عاماً.
أما في منطقة اليورو، فقد تباطأ التضخم إلى 2.9 في المئة، وفق ما أظهرت بيانات المكتب الأوروبي للإحصاءات (يوروستات) لشهر أكتوبر، وهو أقل معدل منذ يوليو 2021 عندما وصل إلى 2.2 في المئة، حيث يعدّ التضخم أقل من نسبة 4.3 في المئة تم تسجيلها في سبتمبر الماضي وأقل من توقعات المحللين الذين توقعوا بأن يبقى التضخم أعلى من 3 في المئة، ليصبح معدل التضخم حاليا أقرب إلى هدف البنك المركزي الأوروبي البالغ 2 في المئة.
وكان معدل التضخم في منطقة اليورو وصل إلى 10.6 بالمئة في أكتوبر 2022 مسجلاً أعلى مستوى تاريخياً.
وبالنسبة لأسعار الفائدة، فقد أبقاها البنك المركزي الأوروبي دون تغيير عند مستوى 4.50 بالمئة، لينهي سلسلة من الزيادات استمرت 15 شهراً.
وكان البنك المركزي الأوروبي، أعلن في 14 سبتمبر الماضي رفع أسعار الفائدة بواقع 25 نقطة أساس، في زيادة هي العاشرة على التوالي منذ ديسمبر 2021.
وفي ألمانيا الاقتصاد الأكبر في الاتحاد الأوروبي، أعلن المكتب الاتحادي للإحصاء في مدينة فيسبادن عن حدوث تباطؤ ملحوظ في وتيرة التضخم في البلاد، مشيراً إلى أن المعدل بلغ 3.8 بالمئة مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، وذلك بعد أن كانت المعدل وصل إلى 4.5 بالمئة في سبتمبر الماضي، وتجدر الإشارة إلى أن هذا هو أدنى معدل للتضخم يتم تسجيله منذ أغسطس 2021.
وكان معدل التضخم السنوي في ألمانيا وصل إلى 6.1 بالمئة في أغسطس الماضي، بينما كان المعدل تجاوز مستوى الـ 8 بالمئة في يناير الماضي.
البنوك المركزية بين الوهم والانتصار
قال نضال الشعار، وهو كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” بأستراليا لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن وصف ما قامت به البنوك المركزية في الاقتصادات العالمية، وأنها هي التي انتصرت على التضخم وخفضت معدلاته إلى المستويات التي نراها اليوم، هو وهم ومغالطة كبيرة، مشيراً إلى أن السياسات النقدية للبنوك ورفع أسعار الفائدة لعبت دوراً في التأثير على الطلب الكلي وبالتالي يعتبر انتصارها على التضخم جزئياً وليس كليا، بل ويرى أن الموضوع مختلف تماماً عما يتم تداوله من تحليلات بهذا الخصوص.
وعن الزاوية التي ينظر إليها في موضوع تباطؤ معدلات التضخم ووصولها على معدلات قريبة من مستهدفات البنوك المركزية أعادنا الشعار إلى أسباب ومصادر التضخم بقوله: “سبب التضخم كان من جانب الطلب بعد جائحة كورونا، إذ كان هناك طلب كامن، وهذا الطلب فعل فعله في الأسواق فيما يخص المستويات العامة للأسعار، وتزامن ذلك مع أحداث جيوسياسية تجلت في الحرب الروسية الأوكرانية والنزاع ما بين تايوان والصين ما أدى إلى ارتفاعات واضحة في أسعار السلع والطاقة والرقائق أو أشباه الموصلات، وهنا يمكننا القول بأن مصدر التضخم كان من الطلب ومن العرض”.
“صحيح أن البنوك المركزية رفعت أسعار الفائدة لكبح التضخم لكن تأثير ذلك كما أشرنا كان جزئياً، لأن التأثير الكلي جاء من استنفاذ الطلب بمعنى أن الطلب الكامن الذي تولد عن جائحة كورونا كان مصيره الجفاف أو الاختفاء وفي الوقت ذاته انخفضت أسعار الطاقة خلال الفترة التي تلت انطلاق الحرب الروسية الأوكرانية، ولم تعد ترتفع كما كان متوقع لها وهو ما أدى إلى الانخفاضات التي شاهدناها في المستوى العام للأسعار”، بحسب نضال الشعار.
ويرى كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” بأستراليا أن “الاحتفاء بانخفاض التضخم يعتبر أمرا مبكرا، لأن الطلب بشكل عام بدأ بالانخفاض وسوق العمالة كذلك بدأ بالتراجع، فضلاً عن وجود مؤشرات كثيرة على وجود مرحلة من الانكماش وهي عكس التضخم، وذلك يعود إلى انخفاض الطلب الكلي وهذه دورة اقتصادية طبيعية وتحصل في كل دول العالم وليس فقط في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي”.
ولكن هل ستقوم البنوك المركزية بخفض أسعار الفائدة؟
يجيب الشعار على هذا التساؤل بقوله: “نعم، ستقوم البنوك المركزية بخفض أسعار الفائدة في الفترة المقبلة لسبب بسيط وهو أن الاقتصادات لم تعد بحاجة إلى رفع أسعار الفائدة ولم تعد معدلات التضخم بحاجة إلى رفع أسعار الفائدة، وبالتالي ستضطر البنوك المركزية إلى خفض أسعار الفائدة في المستقبل، ولا أعتقد أن هذا المستقبل بعيد بل قريب وهذا سيكون له نتائج تتجلى في حراك اقتصادي طبيعي ما بين السندات والأسهم، إذ أن سوقي السندات والأسهم دائما في تنافس، وحقيقة لم نشاهد هذا الحراك في العامين الماضيين بسبب التشوهات التي حصلت في السوق نتيجة جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية والنزاع الصيني التايواني”.
عوامل ارتداد التضخم
بدوره، يرى أشرف العايدي الرئيس التنفيذي لشركة “Intermarket Strategy” أن البنوك المركزية العالمية المهمة انتصرت في حربها ضد التضخم بنسبة 50 بالمئة، بينما الانتصار الكامل على التضخم يتجلى في القدرة على منع التضخم من الارتداد مجدداً، مشيراً إلى أن هذا الارتداد يمكن أن يأتي صعود جديد لأسعار النفط، أو من أي توترات جديدة في منطقة الشرق الأوسط بما يخص لعب إيران دور في الصراع الدائر حالياً بشكل يسبب الضرر للمصالح الأميركية.
ويضيف العايدي في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن ارتخاء أو تخفيف الأوضاع المالية التي تتكون من هبوط عوائد السندات وتراجع الدولار وصعود مؤشرات أسواق البورصة، يمكن أن يدفع التضخم للارتفاع مجدداً أو على الأقل توقف معدلات التضخم عن التراجع، فكما لاحظنا في شهر نوفمبر من العام الماضي صعود مؤشرات الأسواق المالية وتراجع الدولار وهبوط في عوائد السندات ما أدى إلى ارتفاع جديد في التضخم وهو ما ظهر في شهري فبراير ومارس الماضيين”.
ولكن خلال الوضع الراهن وضمن الأرقام الحالية للتضخم، هل نستطيع القول بأن رفع أسعار الفائدة قد توقف؟
الرئيس التنفيذي لشركة “Intermarket Strategy” يجيب على هذا التساؤل قائلاً: “نعم رفع الفائدة توقف لكن يجب التأكيد على أن التحدي المقبل للبنوك المركزية هو إقناع الأسواق بأن توقف حملة رفع الفائدة لا يعني أنه إشارة لأي تخفيض قادم لأسعار الفائدة”.
والعايدي بهذه الإجابة يخالف توقعات الدكتور نضال الشعار كبير الاقتصاديين في شركة “ACY” بأستراليا بأن البنوك المركزية ستخفّض أسعار الفائدة في الفترة المقبلة.